إنه أختلاف منهج وليس أختلاف أسلوب

إنه أختلاف منهج وليس أختلاف أسلوب

منقذ داغر
في أكثر من مكان،وآخرها في مقالتي التي نشرها معهد واشنطن قبل أيام ، ذكرت أن المواجهة بين الحكومة ومابات يسمى بالمجاميع(المنفلتة)باتت وشيكة وهي قادمة لا محالة رغم أني لا أتمناها. وربما أزعجت رؤيتي هذه بعضهم ممن لازال يعتقد أن الأمور يمكن أن تحسم سياسياً ومن خلال تفاهمات معينة تساعد بعض القيادات والقوى السياسية(المتعقلة)سواء في العراق أو في إيران على ترتيبها بين الحكومة وهذه المجاميع. وعلى الرغم من إغراء هذه الفكرة لأشخاص مثلي مؤمنين بشدة بدور السياسة والحكمة والهدوء في معالجة المشاكل،إلا أن الواقعية تفرض عليّ الإعتراف أن إحتمال إحتواء الإختلاف بين قوى الدولة واللادولة سياسياً بات أبعد من أي وقت مضى.
فيوماً بعد الآخر يبدو الإختلاف أشد وضوحاً بين منهجين ورؤيتين ليس في إدارة الدولة ومؤسساتها حسب،بل في مستقبل العراق وشعبه وخياراته الستراتيجية. ولأنه أختلاف منهجي وليس مرحلي،ولكونه أختلاف في الرؤية وليس في الإسلوب فإن من الصعب إدامة الهدنة بين المنهجين لمدة طويلة بخاصة وأن كل من الطرفين عازمين على تنفيذ رؤيتهما بأقرب وقت رغم المرونة التي قد تبدو من هذا الطرف أو ذاك(أحياناً).
إن رؤية الحكومة كما عبر عنها الكاظمي ،في أكثر من مناسبة،واضحة بأتجاه إستعادة ولاية الحكومة على الدولة وأتباع سياسة داخلية وخارجية مستقلة ومبنية على مصلحة العراق. بأختصار فهي رؤية سياسية إصلاحية وبراغماتية تراعي التوازنات الداخلية والخارجية ولا تعتمد المنهج الثوري والآيدلوجي في إدارة العراق.هي رؤية -كما أفهمها- تحاول تمهيد الطريق لمجتمع عراقي مدني مشتقل الإرادة.
أما رؤية المجاميع المسلحة التي تتحالف بل وتقود قوى اللادولة فهي رؤية متناقضة تماماً مع رؤية حكومة الكاظمي. إنها رؤية مؤدلجة تربط مصلحة العراق وشعبه بمنهج ثوري يضع تلك الآيدلوجية وأفكارها في مكانة مقدسة تسمو على مكانة العراق وشعبه. وإذا كانت (القدسية)في رؤية الحكومة هي للدولة والعراق،فالقدسية بالنسبة للمجاميع المسلحة التي تتبنى هذا النهج،هي للفكرة التي يعتنقها المُعتقِد،والمُعتَقَد به!
إن الصراع بين هاتين الفكرتين والرؤيتين هو صراع وجود وليس صراع تعايش. وإذا كانت الحكومة تعتقد أن هناك إمكانية للتعايش بينهما فهي واهمة حتماً. فحتى بعد نجاح الكاظمي في أقناع الأميركان بضرورة الأسراع في سحب قواتهم من العراق-وهو ما حصل فعلاً-وحتى بعد تصريح الأميركان أن كل القوات ستغادر العراق،فأن ذلك لن يجعل تلك المجاميع تتعايش مع الحكومة والدولة.
والملاحظ أن إعلان القوات الأميركية عن سحب معظم قواتها من العراق لم يؤدي الى خفض وتيرة الهجمات على القواعد والسفارات الأجنبية في العراق بل زاد من حدتها. لا بل أن زيادة الهجمات مؤخراً على القوافل اللوجستية للقوات الأميركية أشرت أسلوباً جديداً في المواجهة. كما أن هجمات الأمس على المنطقة الخضراء وعلى قافلة السفارة البريطانية تؤشر تطوراً نوعياً وتصعيداً جديداً في المواجهة المسلحة بين تلك المجاميع المسلحة وبين قوى الدولة.
وحتى إذا أنسحبت كل القوات الأميركية والأجنبية من العراق بما فيهم المدربين للقوات العراقية،فأن ذلك لن يجعل تلك المجاميع تلقي السلاح لأنها تحمله ليس دفاعاً عن إستقلال العراق وخلوه من القوات الأجنبية،بل هي تحمله لغاية عقائدية أكبر تتمثل بتحرير فلسطين وإقامة الدولة الإسلامية ،كما عبرت هي عن ذلك علناً وفي أكثر من مرة. وليس مستبعداً أن يكون المطلب الجديد بعد خروج القوات الأجنبية من العراق هو قطع العلاقات الدبلوماسية والأقتصادية مع كل من وقّع إتفاقاً مع(إسرائيل) أو لا يتبنى نهج المقاومة المسلحة!
كباحث في الشأن السياسي العراقي،أتمنى مخلصاً عدم حصول مواجهة بين الطرفين لعلمي بما يمكن أن تسفر عنه تلك المواجهة من خسائر ليست بشرية ومادية حسب بل وحتى سياسية،لكني في نفس الوقت أعلم جيداً أن وجود دولتين تتعايشان برؤيتين ومنهجين مختلفين تحت سماء واحدة وضمن حدودٍ واحدة هو أمرٌ ليس غير طبيعي فقط وإنما غير معقول أيضاً.