من 2003 إلى 2025 كيف تغيّر الرأي العام العراقي خلال العقدين الماضيين
رند داغر وتمارا ديماسي – المجموعة المستقلة
تمرّ هذا الأسبوع الذكرى السنوية للحرب التي غيّرت مسار العراق الحديث. فمنذ غزو القوات الأميركية إلى بغداد في 9 نيسان 2003، والعراق يعيش تحولات كبرى في بنيته السياسية والإجتماعية و الإقتصادية، طبعها العنف في مراحل، وأظهر فيها المجتمع مرونة وقدرة على التكيّف في مراحل أخرى.
و على الرغم من الفوضى العارمة التي سادت البلاد في السنوات الأولى بعد 2003، وما رافقها من انعدام ثقة في الدولة ومؤسساتها بشكل عام، تكشف بيانات الرأي العام التي جُمعت خلال الاثني عشر شهرًا الماضية عن تحسّن ملحوظ – ولو تدريجي – في المزاج الشعبي، ولا سيّما فيما يخص الثقة بالحكومة الحالية والدعـم المتزايد لها.
تعتمد هذه الورقة على مقارنة نقطتين زمنيتين أساسيتين: الأولى من أحد أوائل استطلاعاتنا الوطنية التي أجريناها في تشرين الثاني/نوفمبر 2003، والثانية من أحدث استطلاعاتنا الميدانية لعامي 2024 و2025. ومن خلال هذه المقارنة، نحاول تقديم صورة أوضح لتحولات المزاج العام العراقي في ضوء ما مرّت به البلاد من أزمات، وتحديات، ومحاولات إعادة بناء.
في عام 2003، دخل العراق مرحلة من الانهيار المؤسسي وتفكك السلطة المركزية، تزامن معها تصاعد حاد في التوترات الطائفية. بلغت موجات العنف ذروتها عام 2006، مع اشتداد أعمال القتل والتهجير القسري، خصوصًا في المناطق المختلطة، مما أدى إلى تمزق النسيج الاجتماعي. واستمر هذا التصعيد حتى عام 2008، حيث تمكن العراقيون، لا سيما في بغداد ومناطق شمالها، من التصدي لتنظيم القاعدة الذي كان ينشط بقوة خلال تلك الفترة. في تلك السنوات الدامية، قُتل أو نزح ملايين العراقيين، سواء داخل البلاد أو إلى دول الجوار وخارجها. وبالتوازي مع ذلك، ساهمت الأزمات السياسية والتدخلات الإقليمية المستمرة في تقويض ثقة المواطنين بالمؤسسات الوطنية.
بحلول عام 2013، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في مناطق الرمادي والفلوجة وسامراء والموصل وكركوك، غذّتها مشاعر الغضب تجاه الحكومة المركزية والشعور بالتهميش. وقد اختُطفت هذه الاحتجاجات لاحقًا من قبل تنظيم داعش، الذي كان قد رسّخ موطئ قدم له في سوريا بعد اندلاع الحرب الأهلية هناك عام 2011. وبلغ توسّع التنظيم في العراق ذروته بسقوط الموصل عام 2014، ما مثّل أحد أكثر الفصول تدميرًا في التاريخ الحديث للعراق. وقد أدى استيلاء داعش إلى نزوح جماعي وتدمير للبنية التحتية وصدمة واسعة النطاق.
إن عجز الحكومات العراقية المتعاقبة عن حل القضايا الجوهرية مثل البطالة وتردّي الخدمات العامة والفساد المستشري قد أجّج إحباطًا شعبيًا واسع النطاق. وقد بلغ هذا الاستياء المتزايد ذروته في حركة تشرين (احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019)، وهي انتفاضة واسعة النطاق قادها الشباب كشفت عن مكامن الضعف الهيكلية العميقة في النظام السياسي العراقي. وأدّت هذه الاحتجاجات في النهاية إلى استقالة رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي.
على الرغم من هذه الانتكاسات، شهدت سنوات ما بعد داعش محاولات لإعادة البناء والإصلاح. وفي الأعوام الأخيرة، يبدو أن الشعور العام بدأ بالاستقرار. وبينما لا تزال التحديات قائمة، تشير بيانات جديدة إلى أن عددًا كبيرًا من العراقيين أصبحوا أكثر تفاؤلًا بشأن اتجاه البلاد، وأن الثقة في منظومة الحكم قد تحسّنت بشكل طفيف لدى مختلف شرائح المجتمع.
مخاوف المواطنين
في استطلاع وطني أجرته المجموعة المستقلة في نوفمبر 2003 على عينة من 1300 مشارك، أفاد نحو 60٪ من العراقيين بأنهم يشعرون بعدم الأمان في أحيائهم، مما يعكس حالة انعدام الأمن الواسعة التي أعقبت سقوط النظام السابق وما تلا ذلك من عنف. وعندما طُرح السؤال نفسه مرة أخرى في عام 2024، انخفضت تلك النسبة بشكل كبير، حيث أفاد 10٪ فقط بأنهم يشعرون بمستويات متوسطة إلى عالية من عدم الأمان.
إن التراجع الملحوظ في الشعور بانعدام الأمن يعكس تحولًا واضحًا في نظرة العراقيين إلى سلامتهم الشخصية. ويمكن عزو هذا التغيير إلى عدة عوامل، منها تعزيز القوات الأمنية العراقية في مرحلة ما بعد ٢٠٠٣ – علمًا بأنه في مايو ٢٠٠٣ قامت سلطة الائتلاف المؤقتة رسميًا بحل الجيش العراقي وأجهزة الأمن والاستخبارات التابعة للنظام السابق، مما خلق فراغًا في السلطة وساهم في انتشار عدم الاستقرار. ومع مرور الوقت، ساهم استرداد الأراضي من تنظيم داعش وجهود إعادة بناء الحكم المحلي في تحقيق تحسّن تدريجي. وعلى الرغم من تحسّن الوضع الأمني، فإن تحديات مستمرة مثل الفساد والتشرذم السياسي ما زالت تؤثر على ثقة الجمهور.
الشكل 1 :استطلاع وطني في العراق – نوفمبر ٢٠٠٣ وديسمبر ٢٠٢٤. هامش الخطأ: ±٢.٥٪.
تغيّر في الأولويات
تظهر مقارنة أخرى لافتة على مدى العقدين الماضيين في تحول أولويات العراقيين بشأن أبرز المشاكل التي تواجه البلاد. ففي عام 2003، عندما طُرح سؤال “ما رأيك بأكثر القضايا إلحاحاً التي تواجه مجتمعك؟”، جاءت الغالبية العظمى من الإجابات لصالح الأمن، وهو ما كان متوقعاً في ظل الانهيار الكامل للنظام آنذاك. أما في استطلاع كانون الثاني 2025، حيث طُرح سؤال مشابه “ما هي برأيك أكثر مشكلة خطورة تواجه بلدنا اليوم؟”، لم تعد المخاوف ترتبط بالأمن، بل تصدّرت البطالة القائمة، تلتها الأوضاع الاقتصادية الصعبة والفساد.
ويعكس هذا التحول في أولويات الرأي العام العراقي انتقالاً أعمق في طبيعة التحديات. فبينما لا يزال الأمن مهماً، لم يعد يهيمن على التفكير الجماعي كما في السابق. لقد باتت المخاوف الاقتصادية هي الأولى (بمجموع 22%)، مدفوعة بانكماش الطبقة الوسطى، والاعتماد المفرط على القطاع العام غير المنتج، وقلة الفرص في القطاع الخاص، إضافة إلى الضغوط العالمية الاقتصادية.
تبدو هذه التحديات أكثر حدّة لدى شريحة الشباب، إذ أن العديد من خريجي الجامعات لا يجدون وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم. وقد أدى هذا الفجوة بين المؤهلين وسوق العمل إلى تزايد مشاعر الإحباط لدى شريحة واسعة، حيث يعمل العديد منهم في وظائف منخفضة المهارات لا تليق بمستواهم العلمي، ما خلق شعوراً عاماً بالإقصاء الاقتصادي وسوء استثمار الموارد البشرية.
توضح المقارنة بين الشكلين البيانيين 1 و2 هذا التحول في المزاج الوطني: من الخوف على الحياة إلى القلق على المعيشة، وهي معلومة مهمة لفهم أولويات السياسة العامة وتوقعات المواطنين اليوم مقارنة بما كانت عليه قبل 22 عاماً.
الشكل 2: استطلاع وطني في العراق – نوفمبر ٢٠٠٣ ويناير ٢٠٢٥. هامش الخطأ: ±٢.٥٪.
اتجاه العراق
أحد الأسئلة المحورية التي حرصت المؤسسة المستقلة على متابعتها منذ ٢٠٠٣ هو: «هل تعتقد أن العراق يسير في الاتجاه الصحيح أم الخاطئ؟». ويعدّ هذا السؤال بمثابة مقياس حيوي لنبض الرأي العام – حيث يرصد الكيفية التي يتصوّر بها العراقيون الاتجاه العام للبلاد عبر الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
في عام ٢٠٠٤، بعيد سقوط النظام السابق، أعرب العديد من العراقيين عن التفاؤل، على أمل حدوث انتقال ديمقراطي وتحسّن في الخدمات العامة وتعافٍ وطني. إلا أن هذا التفاؤل بدأ بالتلاشي بحلول ٢٠٠٧، عقب اندلاع العنف الطائفي في ٢٠٠٦ والانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية. وقد انهارت الثقة، إذ إن ٤٥٪ فقط من العراقيين كانوا يرون أن البلاد على المسار الصحيح.
وبحلول عام ٢٠١٦، في ذروة الصراع مع تنظيم داعش، بلغ التفاؤل أدنى مستوياته – حيث شعر ١٤٪ فقط بأن العراق يسير في الاتجاه الصحيح، ما يعكس سخطًا واسعًا غذّاه انعدام الأمن وانهيار المؤسسات والمصاعب الاقتصادية.
في تحول كبير، تحسّنت توجهات الجمهور بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. ففي فبراير ٢٠٢٤، وللمرة الأولى منذ ٢٠٠٤، رأى أكثر من نصف العراقيين (أكثر من ٥٠٪) أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح، مما مثّل علامة فارقة ذات دلالة رمزية. واستمر هذا المنحى حتى أوائل ٢٠٢٥، حيث أعرب ٥٢٪ عن الرأي نفسه. ويرجع هذا الارتفاع في التفاؤل إلى حد كبير إلى تحسن الوضع الأمني والاستثمارات في البنية التحتية وعلاقات خارجية أكثر توازنًا، وإلى فترة من الاستقرار السياسي النسبي ، رغم استمرار المخاوف بشأن الفساد والإصلاح الاقتصادي.
الشكل 3: اتجاهات الاستطلاعات الوطنية (2004-2025). هامش الخطأ: +-3%
الثقة بالحكومة
وفي أحدث استطلاع، أفاد ٥٥٪ من العراقيين بأنهم يثقون بحكومتهم – وهي نسبة ثابتة مقارنة بالجولات السابقة، لكنها زيادة كبيرة مقارنة بمستوى ثقة الجمهور قبل بضع سنوات فقط.
الشكل البياني 4: اتجاهات الاستطلاعات الوطنية (٢٠١٠ – ٢٠٢٥). هامش الخطأ: ±٣٪.
ويبرز هذا الاتجاه بصورة جلية عند النظر إليه في سياق عالمي. فبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الصادرة في نوفمبر ٢٠٢٣ تشير إلى أن ٣٩٪ فقط من المستجيبين في ٣٠ دولة عضو أفادوا بأن لديهم ثقة عالية أو متوسطة في حكوماتهم. إن المستوى الأعلى للثقة في العراق يلفت الانتباه، بما يوحي بتحول في كيفية استجابة المواطنين للتحسينات الأخيرة في الحوكمة وتقديم الخدمات ولدور الحكومة في استعادة الإحساس بالحياة الطبيعية بعد عقود من الأزمات.
جدير بالذكر هنا أن هذا التحسن في تصورات الجمهور لا يعني حلًا كاملًا لتحديات العراق. فلا يزال الفساد وبطالة الشباب والمشكلات الاقتصادية الهيكلية تلقي بثقلها على الرأي العام. لكن في بلد طالما اتّسم بعدم الاستقرار، فإن تنامي الثقة بالمؤسسات مصحوبًا بتزايد التفاؤل بشأن مسار البلاد قد يشير إلى نقطة تحوّل بطيئة ولكن ذات مغزى.
ومع تأملنا لأكثر من عقدين من التغيير منذ ٢٠٠٣، فإن هذه البيانات لا تمثّل مجرد لقطة للحظة الراهنة، بل هي مقياس يوضّح مدى التقدم الذي أحرزه العراق، وتذكرة بكيفية استمرار الرأي العام في تشكيل الواقع المتغيّر للبلاد والاستجابة له.