استطلاعات الراي العام واهميتها في تبصير المواطنين
احمد العامري
ان اهم ما يميز مرحلة ما بعد عام 2003 وهو تاريخ الاحتلال الامريكي للعراق هو حدوث انفتاح اعلامي وثقافي مخطط له مسبقا وغير محسوب النتائج بحيث عجت الساحة الاعلامية العراقية بعشرات من الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية الارضية منها والفضائية وكل وسيلة من هذه الوسائل تخاطب المتلقي العراقي بطريقتها الخاصة ومن وجهة نظر محددة الاهداف والغايات وتصب في مصلحة هذا الطرف او ذاك من غير ان تاخذ الغالبية العظمى منها في الحسبان مصلحة الوطن و قضاياه الجوهرية وتوجيه الراي العام وبما يخدم القضايا الوطنية و توسيع وعي وبصيرة المشاهد او المستمع بما يهمه من القضايا من دون ان تعطي اية معالجات او حلولا جذرية و انما مع الاسف غلبت على اغلبها البرامج الحوارية التي ساهمت الى درجة كبيرة في ارباك الوضع السياسي وخلق حالة يمكن ان نطلق عليها حالة من التيهان والعبثية بعقلية المستمع او المشاهد وابعاده بكل الوسائل عن ايجاد الحلول لما يعاني منه وان كانت حلولا ترقيعية وصولا الى تجهيله ودفعه الى الدخول في حالة من التوهان وان واحدا من اسباب كل ما تقدم هو كون اصحاب هذه الوسائل الاعلاميةمن غير المختصين بالاعلام ودراسته ودروبه وانهم من اصحاب المال الذي يتم توظيفه من اجل الجاه والسلطة والنفوذ . ان الذي دفعني للتطرق الى هذا الموضوع الحيوي والهام ما شاهدته في احدى القنوات الفضائية وهي تبث برنامجا جديدا رايت فيه من وجهة نظري انطلاقة حقيقية لتبصير المشاهد بالامور التي يحتاج الى ان يفهم عنها الكثير وهي قضايا تمس وتلمس حاجته الضرورية وتجد لها الحلول وبالتالي تنقلهم من حالة التهيان التي سبق ذكرها الى حالة الوعي بكل ما يدور حوله وهذا البرنامج المقصود هو ” رأيكم مع منقذ ” الذي قدمته قناة التغيير الفضائية اعتبارا من 15 اب 2019 و للحقيقة التي ليس فيها اي لبس انني وانا اشاهد هذا البرنامج لفت انتباهي مقدم البرنامج وهو احد اسباب نجاحه على ما اعتقد الدكتور منقذ محمد داغر وهو شخصية اكاديمية متخصص في شؤون الادارة ودراسات واستطلاعات الراي العام وله باع طويل في ذلك ناهيك عن كونه مسؤول الشرق الاوسط وشمال افريقيا في منظمة غالوب و مدير المؤسسة المستقلة للراي العام بحيث و لاول مرة يتاح لشخصية اكاديمية بهذا المستوى وتحمل درجة الدكتوراة في تقديم برنامج وهو ما ساهم بشكل كبير في انجاحه و كسب شعبية كبيرة خاصة وانه يقدم المعلومة للمشاهد بالارقام و الاحصاءات المبينة على استطلاع اراء الالاف من المواطنين من مختلف الفئات العمرية في جميع محافظات العراق في القضايا التي تهم العراق وما حوله وتلامس هموم واحتياجات الشرائح المختلفة من المواطنين في ان يفهموا ما يدور حولهم واماطة اللثام عن العمى الذي حاولت هذه الجهزة الاعلامية ان تفرضه عليهم .ان ما اطرحه اليوم في هذا المقال انما هو بداية لسلسلة من المقالات الاخرى التي ستتناول هذا البرنامج والمواضيع التي تطرق لها لما في ذلك من فائدة للمواطن في تبصيره بقضايا تهمه وتخلق لديه وعيا كاملا.
________________________________________
كما قلنا في الحلقة الاولى من ان استطلاعات الراي العام جاءت محبطة لحالة التجهيل والتيه التي حاول البعض فرضها على المواطنين من مشاهدين ومستمعين وقراء عبر وسائل الاعلام المقروءة والمرئية والمسموعة . ويعد الاستطلاع للراي العام الذي اجرته مؤسسة الدكتور منقذ محمد داغر الاول في العراق وكانت ولادته بسيطة جدا عبر عنها الدكتور منقذ عندما قال انه وبعد الاحتلال الامريكي للعراق وحل معظم مؤسسات الدولة واصبحت قطاعات واسعة من العراقيين من دون عمل حث اصبح لديه وافرا من الوقت و قد شاءت الظروف ان يقع في يده كتاب يتحدث عن استطلاعات الراي العام مما دفعه للتفكير باجراء استفتاء او استطلاع للراي لمعرفة كيف يفكر العراقيون بخصوص عدد من القضايا التي تشغل بالهم ويهتمون بها لانها على تماس مباشر مع حياتهم اليومية والظروف التي يمر بها العراق وانعكاس ذلك على مفردات حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية اليومية التي تاثرت بشكل او باخر بهذا الاحتلال . وذكر الدكتور منقذ وهو يسرد للمشاهدين كيفية ولادة فكرة الاستطلاع حيث قال انها جاءت بادوات بسيطة جدا و بمساعدة مجموعة من طلبة الدراسات العليا في كلية الادارة والاقتصاد واخرين ممن اصبحوا لاحقا اعمدة وركائز اساسية في المؤسسة ولما كان الاحتلال هو الشغل الشاغل للعراقيين فقد وردت فكرة معرفة اراء العراقيين بهذا الاحتلال وكيف ينظرون اليه وقد كانت النتائج قريبة جدا من الواقع في بداية الاحتلال حيث كانت العينة الاستطلاعية عبارة عن سؤال عن كيفية وصف العراقيين للقوات الامريكية الغازية للعراق حيث كان السؤال هل القوات الامريكية هي قوات احتلال او قوات تحرير او قوات حفظ سلام كما حاولت بعض الجهات الترويج لذلك من اجل اضفاء طابع الشرعية على الغزو وخداع الشعب العراقي ودفعه للتعامل مع القوات الامريكية كواحدة من الافتراضات السابقة و كانت النتائج كما عرضها الاستطلاع الذي اجرته المؤسسة المستقلة للراي العام التي يقودها الدكتور منقذ حيث اجاب 84% من العراقيين بان القوات الامريكية انما هي قوات احتلال بينما اجابت 7% من الذين تم استطلاع ارائهم انها قوات تحرير وهو ما ثبت عكسه في السنوات اللاحقة في حين راى 8% من العراقيين انها قوات حفظ سلام وهي صفة لا تنطبق على العراق حيث لم يكن فيه نزاع من اجل وجود هكذا قوات تاخذ على عاتقها الفصل بين الاطراف المتنازعة او الدول المتحاربة كما هو واقع ما تقوم به قوات حفظ السلام الدولية بينما كانت الاجابات الاخرى عن هذه القوات من امثال قوات صديقة او مساعدة 2% من المستطلعين. ان هذا الاستطلاع الذي تناول الوجود الامريكي في العراق عكس بصدق مزاجية المواطن العراقي ونظرته للقوات الامريكية المحتلة رغم الظروف التي سبقت الاحتلال وهي ظروف قاسية وصعبة مر بها العراق عبر حصار دام 14 عام ورغم وجود ما يطلق عليه معارضة للنظام السابق الا ان العراقي بطبيعته وفطرته الوجدانية يرفض الاحتلال من اي كان ولا يمكن ان يرضاه لبلاده وهو ما افضى الى مقاومة عنيفة له وتكبيده خسائر فادحة في الارواح والمعدات اجبرته على الانسحاب من العراق لاحقا ” يتبع..”
____________________________________
وبعد ان كانت استطلاعات الراي العام التي اجراها الدكتور منقذ محمد داغر في المؤسسة التي يقودها فردية او بحثية مقتصرة على جوانب معينة فقد بدات هذه الاستطلاعات تاخذ شكل مؤسسة كبيرة قامت بانجاز العديد من استطلاعات الراي العام بحيث احتلت مكانة الصدارة في منطقة الشرق الاوسط واستطاعت المؤسسة المستقلة لبحوث الراي العام ان تنجز اكثر من مليوني مقابلة مع شرائح مختلفة وفئات عمرية عديدة ومتنوعة داخل العراق من اجل ان يكون الاستطلاع الذي تجريه معبرا عن الواقع بشكل دقيق كما وانها تحولت الى جهاز مؤسسي للاحصاء بحيث كانت فكرة العمل تقوم على قاعدة اخذ عينات مختلفة من جميع محافظات العراق عبر عشرات من فرق البحث الميدانية المنتشرة من شمال العراق الى جنوبه وهو ما مكن ولادة استطلاعات للراي العام حقيقية ودقيقة و عاكسة لما يفكر فيه العراقيون على اختلاف انتمائاتهم ومشاربهم الطائفية والعرقية والمذهبية والدينية والقومية وهذا العمل المؤسسي الرصين دفع المؤسسة الى ان تحصل على شهادة ” الاوزو” العالمية لعام 2001 . وقد انصبت جهود المؤسسة المستقلة للراي العام و باشراف مباشر من لدن د.منقذ داغر على جعل استطلاع الراي العام يركز على الديمقراطية الاجتماعية ومعرفة وجودها من عدمه وهل توجد لدى العراق سيادة ام ان السيادة بيد السلطة او الطغمة من المتنفذين في اطار خطوة من اجل تفعيل مشاعر الناس باتجاه قضايا معينة وفي اطار رغبة الدكتور منقذ في اعطاء لمحة تاريخية عن كفية بداية استطلاعات الراي العام اوضح انه في عام 1936 بدات استطلاعات الراي العام في الولايات المتحدة الامريكية من قبل الامريكي جورج غالوب وهي استطلاعات انصبت على معرفة نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية ومن سوف يفوز فيها وفي اطار رغبة المؤسسة في الغور بمعرفة مدى رضى العراقيين من عدمه على الوضع الراهن الذي هم فيه فقد وجهت المؤسسة سؤالا حاولت معرفة رايهم في كون العراق تسير الامور فيه بالاتجاه الصحيح ام لا حيث اجاب 62% عام 2005 بان العراق يسير بالاتجاه الصحيح في حين اجاب 23% من العراقيين بان الامور لا تسير بالاتجاه الصحيح . وقد بدا مؤشر عد الرضا بالارتفاع حيث وصل اليوم الى ما نسبته 80% من الذين جرى استطلاع ارائهم بينما اجاب 19% من العراقيين بان الامور تسير بالاتجاه الصحيح في حين اجاب 72% من العراقيين عام 2004 بان الوضع امن في العراق في حين انخفض هذا المؤشر عام 2009 بينما اصبح هذا الموضوع لم يعد شاغلهم الاول حيث تقدمت عليه مؤشرات اخرى تحتل لديهم الاولوية وفي مقدمتها الفساد بعد ان اصبح يضرب الدولة افقيا وعاموديا وتحول الحديث عنه الى العلنية بعد ان كان على نطاق ضيق حيث تحول العراق الى المراكز المتقدمة في الفساد في العالم .
____________________________________
ومن الامور التي اولتها المؤسسة المستقلة لاستطلاعات الراي العام باعتبارها من الاولويات لدى العراقيين هي محاولة معرفة كيف ينظر العراقيون الى الثقة باجهزة الدولة وباعتبار البرلمان هو واجهة الدولة فقد تم التركيز على هذه المؤسسة التشريعية وما رافقها من فساد وتزوير في انتخابات الدورات المختلفة والتي ساهمت في صعود وانتخاب نواب يمكن ان نقول عنهم ان الشعب لم ينتخبهم وقد بين الاستطلاع الذي اجرته المؤسسة ان 21% من العراقيين الذي جرى استطلاع ارائهم عام 2014 اعرب عن ثقته بالبرلمان وبعبارة اخرى ان واحدا من كل خمسة من العراقيين يثق بالبرلمان بينما اصبحت هذه النسبة 17% من العراقيين يثق بالبرلمان عام 2018 اي ان اقل من واحد من كل خمسة من العراقيين يثقون بالبرلمان وهو مؤشر خطير جدا ويعطي صورة مظلمة وقاتمة عن مستقبل العمل البرلماني في البلاد وقد ضلت هذه النسب متدنية مقارنة بمثيلاتها من برلمانات العالم. من المؤشرات الاجتماعية الحيوية والهامة التي ركزت عليها المؤسسة هي معرفة كيف يفكر العراقيون فيما يتعلق بموضوع الطائفية حيث كان المصطلح او التسمية غير معروفة وفي اضيق نطاقها بحيث لم تكن موجودة قبل عام 2003 فعندما يتم سؤال العراقي عن دينه فقد كان يجيب بصورة عامة على انه مسلم او مسيحي من دون ان يذكر المذهب الذي ينتمي اليه من كونه شيعي او سني فقد جاءت اجابات 75% وفقا للاستطلاع من العراقيين على انهم مسلمون في حين اجاب 25% من العراقيين على انهم شيعة او سنة بينما ارتفعت هذه النسبة عام 2013 الى 75% من العراقيين الذين يقولون نحن سنة او شيعة وفقا للمذهب بينما اجاب 25% من العراقيين على انهم مسلمون فقط . ومن المؤشرات الاجتماعية المهمة التي ركزت عليها المؤسسة المستقلة لاستطلاعات الراي العام هو معرفة مؤشر السعادة عند العراقيين حيث وجهت سؤالا للعينات المستطلعة عن مدى احساسهم بالسعادة وهم يعيشون مفردات حياتهم اليومية حيث اجاب 31% من العراقيين عام 2014 بانهم يشعرون بالسعادة بينما اجاب 25% عام 2015 بانهم يشعرون بالسعادة في حين اجاب 38% من العراقيين عام 2016 بانهم يشعرون بالسعادة وهي مستويات متدنية مقارنة بالمؤشرات العالمية في العديد من دول العالم .
____________________________________
من البديهي ان اية استطلاعات للراي العام تتسم بالجدية لا تتوقف عند جوانب بعينها وانما الهدف الاساسي لواضع سياسة استطلاع الراي العام كما هو الحال للمؤسسة التي يقودها الدكتور منقذ محمد داغر كما هو معكوس في برنامجه ” رايكم مع منقذ” هو التوسع لكي تشمل الاستطلاعات جوانب قد تغيب عن ذهنية العديد من المواطنين الذين يرون فيها ربما اولوية ثانوية في حين يرى واضع خطط استطلاعات الراي العام بانها من الاهمية بمكان لانه يعتقد انها تمثل الصورة الشمولية للواقع الذي يتعين ان يعيشه المواطن ويعرف عنه الكثير وخلق صورة كاملة عنده ناهيك عن اختلاف مزاج العينات التي ربما تهتم بجانب على جانب اخر ومن هذا المنطلق فان المؤسسة المستقلة لدراسات الراي العام تاخذ في الحسبان هذه الشمولية وعلى هذا الاساس اهتمت بالمسائل التي تتعلق بصحة الانسان وكيفية تعاطي الجهات الرسمية المسؤولة معها فقد اجرت المؤسسة المستقلة استطلاعا للراي العام حول نسب المدخنين من بين العراقيين وانعكاس ذلك على صحة الانسان حيث تبين ان 40% من العراقيين من المدخنين وفئتهم العمرية اقل من 18 سنة بينما 60% من العراقيين لا يدخنون وهم لا يكلفون الدولة والقطاع الصحي اية نفقات وبينت العينة ان 85% من المدخنين يلجأون الى تدخين السجائر بينما 15% يدخنون الاراجيل . ومن بين المؤشرات الاقتصادية التي سعت استطلاعات المؤسسة ان تركز عليها هو مؤشر الفساد حيث اشارت مؤسسة الشفافية الدولية الي انتشار الفساد في عموم العراق وهو امر بات معروفا ويتحدث عنه الكثيرون ويمكن القول انه اصبح ثقافة راسخة لدى البعض وهو ما تسبب في هدر المليارات من الدولارات والدنانير حيث اكد 89% من العراقيين في عام 2012 انتشار الفساد في عموم مرافق الدولة في حين ارتفعت النسبة الى 93% عام 2019 رغم وجود مؤسسات خاصة بمكافحة الفساد كلجنة النزاهة والمجلس الاعلى لمكافحة الفساد اضافة الى مؤسسات اخرى برلمانية وحكومية من دون وجود معالجات ملموسة على هذه المكافحة يعبر عنها بالاسماء والارقام رغم ظهور اسماء اطلق عليها تسمية الحيتان وهو ما يرمز الى كبر المبالغ التي استولوا عليها من دون وجه حق . ومن الامور المهمة والتي تعكس مدى انتشار الوعي لدى العراقيين وسعيهم الى امتلاك التكنولوجيا و الوسائل المتقدمة في الاتصالات فقد اجرت المؤسسة المستقلة لاستطلاعات الراي العام استطلاعا عن اعداد العراقيين الذين يتملكون الهواتف النقالة حيث تبين ان 40% من العراقيين كانو يمتلكون هذه الهواتف عام 2003 بينما ارتفع هذا الرقم الى ما يقارب نسبا كبيرة عام 2019 حيث اصبح لدى الغالبية هواتف نقالة يستخدمونها في جوانب مختلفة من حياتهم اليومية الاقتصادية منها والاجتماعية لا بل وحتى السياسية .
____________________________________
لمشاهدة الحلقة الاولى :