منقذ داغر
تحدثت في الحلقات الأربع السابقة عن تأثير التكنولوجيا على سلطات الضبط الاجتماعي التقليدية(الأسرة،المدرسة،ومؤسسة الدين) ولم أتحدث عن ما فعلته بالدولة كمؤسسة ضبط لتشعب الموضوع،وأترك من يريد معرفة ذلك لقراءة كتابي حين يصدر. أن تأثير التكنولوجيا في السلطة ومصادرها ليس جديداً. تاريخياً، نقلت الزراعة مصادر السلطة من العائلة الصغيرة (الصيادة والجامعة للغلال) الى الأسرة الممتدة والجماعات الفلاحية التي تحتاج الى أفراد أكثر ليعينوا في الحراثة والسقي وتنظيم الري والسدود والحصاد. حينذاك بدأ يزداد تاثير الجماعة وسلطتها. رافق ذلك نمو ديموغرافي فرضته الحاجة الأقتصادية. ثم جاءت الثورة الصناعية لتنقل السلطة الى مستوى أعلى من التنظيم والتنسيق الجماعي بخاصة بعد أن توسعت المستوطنات السكانية وأزداد عدد أفرادها وأنتشرت المدن الكوزموبوليتانية. رافق هذا الانتقال في مصدر الطاقة من العضلات الى البخار ثم الوقود الأحفوري والكهرباء،أنتقال سلطوي مماثل فرضه هذا التحول التكنولوجي الهائل.فتحولت سلطات الحاكمين من السلطة الآلهية والدينية (في المجتمعات البدائية) الى سلطة التقاليد والعصبية والتغالب (في المجتمعات الزراعية والبدوية)،الى أن أنتهت الى سلطة الشعب التي ما زالت أشكالها في تطور ونكوص مستمرَين.أما اليوم فأننا،وبسبب الثورة الرقمية التي تتطور بمعدل سرعة لا يمكن تصوره،بدأنا نشهد عودة نحو سلطة الفرد،وبروز الفردانية individualism حتى داخل المجتمعات ذات الثقافة الجماعية. وأذا كان أبو علم الأجتماع(أبن خلدون) قد أرجع التعاون البشري الذي هو أساس ما أسماه العمران أو الأجتماع ألى عدم قدرة الانسان بمفرده على تلبية كل حاجاته المعيشية وحاجته العضوية والوظيفية الى الآخرين لكي يتم التعاون وأشباع الحاجات النفسية والمادية،فأننا بتنا قريبين من عصر(مارد) مصباح علاء الدين الذي قد يقلل كثيراً(من الناحية المادية على الأقل) لحاجتنا الى التعاون البشري للانتاج المادي.أن الزمن لن يطول حتى يصل علماء ما يسمى بأنترنيت الأشياء والذكاء الأصطناعي AI الى أختراع جهاز أو شيء(لا نستطيع تخمين ماهيته) يتمكن من تلبية كثير من حاجاتنا ليس بكبسة زر،ولا حتى بالحديث معه ولكن بأتصاله بعقولنا ليعرف بماذا نفكر ويوفره لنا قبل ان يرتد الينا طرفنا. هذا اليومقد بدأ فعلاً. لدي صديق يرأس أحدى شركات انذكاء الاصطناعي الكبرى في أمريكا وهو يحدثني عن قفزات هائلة لم أكن حتى أحلم بها من قبل في مجال قدرة الذكاء الاصطناعي على التواصل مع عقولنا ومعرفة ما نفكرأونرغب به أو على الأقل التعرف الى أنماط تفكيرنا المعتادة.وربما تحدث(أن لم تكن قدبدأت فعلاً) ثورة في أنتاج الأغذية والزراعة تجعل الحاجة للتجمعات الفلاحية الكبيرة غير قائمة. وقد يكون الأمر ما زال بعيداً،لكن نوع من التغذية شبيه بما يتناوله رواد الفضاء في رحلاتهم الآن قد يكون هو النمط السائد خلال عقود.
ولم تقتصر الثورة التكنولوجية في مجال الزراعة والأنتاج حسب،بل رافق ذلك تغيرات ديموغرافية هائلة أثرت وتؤثر في مصادر السلطة التقليدية التي نعرفها وتقلل من سلطة الجماعة،بل ومن الأجتماع الأنساني كما عهدناه طوال قرون. هذا ما سأتناوله في الحلقة الأخيرة القادمة.
