منقذ داغر
في هذه الحلقة التي أختم فيها سلسلة تأثيرات التغير التكنولوجي الهائل على مجتمعنا،آمل أن تصيح المتغيرات التي نعاني منها مؤخراً في البيوت والمدرسة والمسجد أو الحسينية والأعلام أكثر وضوحا.أن ما يحصل من تغيير أجتماعي ليس جديداً في حياة الشعوب وهو مسار حتمي يجب أن نمضي به،ولكن بأفضل النتائج أو أقل الأضرار أذا أحسنا فهمه.يعاني العالم،ومنه العراق من تغيرات ديموغرافية هائلة ستترك أثرها على المستقيل أهمها التحول نحو الجماعات والأحجام الصغيرة المنعزلة كجُزر أجتماعية لا تلتقي الا عند الحاجة. وسنشهد تصاعداً في مسار الأجتماع الأفتراضي أو الرقمي بدل الأجتماع الطبيعي.
لقد بات العالم اليوم،وبخاصة بعد جائحة كورونا يلجأ الى الهجرة المعاكسة بأتجاه المدن الصغيرة والأرياف لأسباب أقتصادية ومعيشية وصحية كثيرة. ونظراً لامتلاء المدن وأكتضاضها بحيث يتوقع ان يشهد عام 2050 ولاول مرة في تاريخ البشرة زيادة عدد سكان المدن على الريف،فقد بدأ مصطلح جديد بالظهور هو الترييف Ruralization . والترييف لا يقصد به ما يظهر في بعض كتاباتنا العربية من نقد لسيادة قيم الريف في المدينة (وهوموضوع مهم سأعالجه في كتابي بعمق)،ولكن يُقصد به أعادة الروح للريف من خلال زيادة معدلات التنمية والأعمار فيه لتقليل الهجرة الى المدن أولاً وتشجيع ساكني تلك المدن للعودة للريف او المناطق شبه الحضرية. صاحب ذلك تقلص حجم العوائل بشكل كبير حتى في المجتمعات التقليدية ذات الثقافة الجماعية الصلبة. أن هناك 10 دول في العالم فقط(كان العراق من بينها حتى عام 2020) يزيد فيها متوسط عدد أفراد الأسرة عن 6 أشخاص.وفي معظم الدول المتقدمة أقتصادياً بما فيها الدول ذات الثقافة التقليدية المحافظة (كاليابان والصين) فأن متوسط افراد العائلة اقل من 3 أشخاص. وفي الصين التي هي من الثقافات الجماعية، أعلن المكتب الوطني للأحصاء هذه السنة كأول سنة يكون مستوى النمو فيها صفراً،وبعدها سيبدأ عدد سكان الصين بأنخفاض مقداره 1.1 % سنوياً . أي أن سكان الصين البالغ حالياً 1.4 مليار شخص سينخفض ليبلغ 587 مليون في عام 2100!
أما في العراق فقد أنخفض حجم الأسرة من 7.7 شخص في المتوسط عام 1997 الى 5.7 فرد عام 2021 ،كما أنخفضت معدلات المواليد لدى المرأة الريفية على مدى عشر سنين ، إذ انخفض المعدل من 5.1 عام 2011 الى 3.6 مولود عام 2021 .هذا يعني أن حجم الاسرة سيكون 4-5 أشخاص خلال عقد من الزمن وسيكون العدد أقل في المدن.
أن هذه التحولات الديموغرافية الواضحة والمصحوبة بثورة تكنولوجية لا يعلم مداها الا الله ستفرض بالتأكيد تغيير في طريقة التنشئة الاجتماعية للاجيال المقبلة بأتجاه مزيد من المرونة ومغادرة الاشكال السابقة لسلطة الأسرة والمدرسة والدين والحكومة. أن ثورة التغيير قادمة سواء رغبنا بها او لم نرغب،وستغلبنا سواء قاومناها أم رحبنا بها. وأفضل ما يمكن عمله هو أجراء تغييرات أجتماعية وسياسية وأقتصادية قادرة على الاستجابة لتلك التغيرات البيئية. بعكس ذلك فأننا يمكن أن نواجه نفس مصير الديناصورات التي لم تستطع التكيف لمتغيراتها البيئية. هذا لا يعني أن على الثقافات الجماعية (كالعراق) أن تتحول الى ثقافة فردية ليس للجماعة دور وقيمة فيها، وانما يعني ان علينا التفكير ملياً في متطلبات الاستجابة البيئية المناسبة لكل ثقافة. أن علينا أدراك اننا تحتاج الى مستوى مرونة وقابلية تكيف أعلى وقدرة على التغيير أفضل أذا أرادت مواجهة عصر التكنولوجيا الرقمية الذي يفرض مزيد من التحديات
أن قاعدة لا أفراط ولا تفريط ينبغي أن تكون المرشد للمتخصصين في مقدار شدة او رخاوة المعايير السلوكية لأي مجتمع. لكن ينبغي التنبيه أن التوازن المطلوب بين التشدد في المعايير أو المرونة فيها لا يجب أن تحكمه فلسفة التعادل الرياضي وأنما الموازنة الديناميكية التي قد تتطلب مزيد من التشدد والصلابة في المعايير كما حصل أثناء جائحة كورونا حينما أدركت حتى المجتمعات الرخوة كأمريكا وأيطاليا وفرنسا أن عليها ان تمارس ضبطاً أكبر للمجتمع لكي يلتزموا بالمعايير الصحية الوقائية. لكن للاسف جاء هذا الادراك بعدأن أضاعت تلك الدول زمناً ثميناً أدى الى خسارتها لآلاف الضحايا.(للتعرف على كيفية أستجابة المجتمعات الصلبة والرخوة لجائحة كورونا والآثار التي ترتبت على صلابة ورخاوة الثقافة من الناحيتين البشرية والمادية .
على الجانب الآخر الافراط في الصلابة يمكن أن يقود الى مشاكل أجتماعية وسياسية وأقتصادية جمة كالتينواجهها حالياً. ان الخيار بين الحرية المطلقة او التقييد الكامل يولد مشاكل لاي مجتمع.فالمجتمعات الحرة التي ليس لديها معايير وقواعد ستسقط في الفوضى.ولنتصور مثلا عدم وجود اشارات المرور او القواعد السلوكية سيحصل؟ سيحصل ما يسمى بطغيان الحرية The Terrany of Freedom ،لكن من جانب آخر فان نظام صارم دون حرية سينجم عنه تسلط وطغيان. أن المجتمعات الجيدة هي تلك التي لديها قدر متوازن من الحرية والضبط.
