رند داغر
في الخطاب السياسي العربي، لم يكن جسد المرأة يومًا خارج ساحة المعركة. فعندما تتصاعد النزاعات بين دولتين عربيتين، تتحوّل النساء فجأة إلى رموز تُستهدف في حرب الإذلال المتبادل. يتم استدعاء “شرف المرأة من بلد معين” وكأنه مرآة أخلاقية تعكس قيمة المجتمع كله، ونقطة ضعف يمكن الطعن فيها بقسوة.

فبدلًا من الاكتفاء بمواجهة سياسية حول قضايا اقتصادية أو أمنية أو سيادية، نجد البعض يذهب مباشرة إلى مهاجمة أخلاق نساء الطرف الآخر سواء في الإعلام التقليدي أو منصات التواصل. هكذا، يُختزل بلد بأكمله في صورة امرأة “عفيفة” أو “منحلة”، ويتم استخدام جسدها لتمثيل مدى انحدار أو سموّ تلك الدولة.

في كثير من الخطابات، لا يُستحضر مفهوم الشرف كقيمة مجتمعية، بل يُستغل كأداة للإذلال السياسي أو القومي. الطعن في أخلاق النساء ليس دائمًا موجَّهًا لهن بحد ذاتهن، بل هو تكتيك لإهانة خصم سياسي أو وطني، عبر تجريده من “رجولته”، بتصويره كمن لا يملك زمام نسائه أو عرضه.

والمضحك والمبكي أن حتى من يزعمون الدفاع أو الاستنكار، ينزلقون إلى استخدام نفس اللغة: يردون على الإهانة بإهانة مضادة، أو يحاولون إثبات أن “نساؤنا أشرف من نسائكم”، دون إدراك أنهم بذلك يكرّسون المنطق ذاته الذي يدّعون رفضه. فالرد باستخدام نفس المفردات لا يحرّر الخطاب، بل يعيد إنتاجه. بل إن الرد على الطرح نفسه قد يكون بمثابة اعتراف ضمني بأنه جدير بالرد أصلاً، أي أنه يحمل شرعية ما وهذا هو الخطر الحقيقي.

هذا النمط الخطابي يكشف خللًا بنيويًا: من جهة، فمن جهة نختزل شرف المجتمع في جسد المرأة، ومن جهة أخرى، نحرمها من الوكالة الفردية، فنستخدمها كأداة لإذلال الآخرين.

وهذا الخطاب ليس عشوائيًا، بل يُعاد إنتاجه من ثقافة ترى المرأة تمثيلًا للشرف الجمعي، وجسدها كساحة صراع رمزي بين الدول. حين تُهان امرأة من دولة ما، تُفهم الإهانة كإهانة للدولة كلها، وكأن حدود الجغرافيا تُمثلها حدود الجسد.

ورغم أن هذا الاستخدام الرمزي لشرف المرأة في النزاعات لم يكن يومًا حكرًا على العالم العربي فقد استخدمته مجتمعات وأمم كثيرة عبر التاريخ وقد تمت مناقشته بالعديد من الكتابات إلا أن اللافت أن هذا النوع من الخطاب ما يزال حاضرًا بقوة في منطقتنا في القرن الحادي والعشرين، في زمن يُفترض فيه أن مفاهيم المساواة وكرامة الفرد أصبحت راسخة. والمفارقة أن ما كان يُستخدم في العصور الإقطاعية، ما زال يُستنسخ اليوم، ولكن بصيغة أكثر رقمية وأسرع انتشارًا.

استمرار هذا الخطاب لا يكشف فقط هشاشة السياسة، بل يُنتج بيئة طاردة للنساء من العمل العام. فالمرأة، حين تدرك أن أي ظهور لها قد يُقابل بالتشهير أو الطعن في سمعتها، غالبًا ما تختار الانسحاب من الفضاء العام، تجنّبًا للعار أو للضغط العائلي.

تستخدم أطراف سياسية هذا السلاح بوعي: تُشوَّه صور النساء، تُلصق بهن الفضائح، يُربط نشاطهن السياسي بالسلوك “غير المحتشم”، حتى تصبح مشاركتهن عبئًا انتخابيًا يُفضل البعض تجنّبه. وفي أحسن الأحوال، تُستخدم المرأة كدمية لملء مقاعد “الكوتا النسائية”، لا كفاعل حقيقي في صنع القرار.

في النهاية، في مجتمعات ترى أن فقدان الشرف مرتبط بسلوك امرأة، أكثر من كونه مرتبطًا بموت جائع، أو بخذلان وطن، فالمشكلة قد لا تكون في شرف المرأة… بل في غياب العقل.