منقذ داغر
لسنين كنت مقتنعاً ان كازاخستان تمثل قصة نجاح للاوتوقراطية حيث بلد كبير يحكمه حاكم واحد لعقود طويلة ولا تكاد تجد فيه اي حزب معارض او حركة مدنية نشطة. وكنت حين اقرأ بين الفينة والاخرى تقارير انتهاك حقوق الانسان هناك،لا اعيرها أهمية كبيرة في ضوء تقارير البنك الدولي التي ظلت ترسم صورة رقمية وردية عن الاقتصاد الكازاخستاني. قليلون في العراق ربما يعلمون ان كازاخستان هي أغنى بلدان وسط آسيا،فهي البلد التاسع في تصدير النفط عالمياً،وهي أعلى منتِج لليورانيوم في العالم،كما ان موقعها الجغرافي اعطاها ميزة استثنائية كبلد عبور للمنتجات الصينية الى اوربا بحيث باتت حلقة رئيسة في مبادرة الحزام والطريق الصينية. لذلك فان ناتجها المحلي الاجمالي وحصة الفرد منه كانت عالية،كما ان البلد جذب استثمارات اجنبية ضخمة جداً بسبب غناه واستقراره وفرصه الواعدة،فما الذي حصل وأدى لهذه الإضطرابات التي استدعت التدخل العسكري الروسي للمحافظة على الحليف الكازخستاني؟ لماذا هذه الثورة الشعبية التي اطلق شرارتها رفع سعر الغاز المسال؟!
أمضيت ساعات في اليومين الماضيين أجمع البيانات والحقائق عما يجري في كازاخستان وسبب التدخل الروسي هناك بما يذكرنا بربيع براغ،ودور الاتحاد السوفياتي في قمع اي انتفاضة في معسكره الشرقي آنذاك. وربما يجهل الكثيرون ان كازاخستان كانت الشرارة التي اطلقت البيروسترايكا الروسية والتي اسقطت الاتحاد السوفياتي. فمنها انطلقت اكبر مظاهرات ضد قرار الحزب الشيوعي السوڤيتي عام 1986بتعيين أمين عام روسي له في بلد يمثل الروس فيه 20% فقط! ورغم ان تلك التظاهرات وما تلاها أجبرت السوفيت عام 1989على تعيين نور سلطان نزارباييف كأمين عام للحزب والذي اصبح فيما بعد رئيساً للدولة ودكتاتورها الاوحد لغاية بلوغه سن الحادية والثمانين عام 2019 حين هيأ الارضية لانتخاب خليفته،توكاييف،في انتخابات شابتها الكثير من الخروقات .وقد انتقلت شرارة تلك التظاهرات القومية آنذاك لجميع دول الاتحاد السوفيتي وتوالت الاحداث التي نعرفها جميعاً بعد ذلك.
على الرغم من الانجازات الاقتصادية الكبيرة على مستوى الاقتصاد الكلي macro الا ان هناك مليون شخص من اصل عشرين مليون هم سكان كازاخستان وبخاصة في المناطق الريفية كانوا يعيشون تحت خط الفقر. كما ان معدل التضخم اقترب مؤخراً من 10%! وكان واضحاً ان التفاوت الطبقي بات هائلاً بين الاف ممن يملكون الملايين والمليارات وملايين لا يملكون المئات والالاف. وعلى الرغم من ان موقع كازخستان على مؤشر الفساد العالمي تحسن عام 2020 الا انها ظلت واحدة من أكثر بلدان العالم فساداً. والاخطر ان مؤشر مدركات الفساد الذي يقيس انطباعات الشعب عن الفساد ظل يرتفع خلال العقد الماضي حتى وصل حده الاعلى هذه السنة. والذي يعرف بسوق العقارات في العواصم العالمية الغالية يعلم ان الكازاخستانيين الاثرياء هم من بين اكثر من يشترون العقارات والقصور في لندن ودبي وسواها. ونظراً لاعتماد الاقتصاد الكازخستاني على استخراج النفط والمعادن فقد تأثر كثيراً بجائحة كورونا وزاد من معاناة الناس.
أن ما يحصل في كازخستان له اوجه شبه كثيرة بما يحصل في العراق. فارتفاع ثروات البلد الطبيعية يكون دوماً مصحوباً بثورة في توقعات الناس. اذ لم يعد ممكناً في الوقت الحاضر اخفاء حقائق الاقتصاد والانفاق والاستهلاك عن الناس. وكما يردد العراقيون دوماً اننا نسبح على بحر من النفط وكثير منا جياع،فان الكازخستانيون يرددون عبارات شبيهة. وكما ان العراقيين يرون مئات من الفاسدين والمتنفذين يمتلكون المليارات فان الكازخستانيين يرون ذلك ايضاً. وكما ان العراق يُحكم من عوائل وشخوص متنفذة فان رئيسة البرلمان هي ابنة نزارباييف ورئيس الشرطة ابنه ،كما ان اقرباءه يمتلكون النفوذ في كل مفاصل الدولة. وكما ان النفوذ السياسي الاجنبي كبير في العراق،فان روسيا التي تحتفظ بقاعدتها الفضائية الرئيسة في كازخستان لها نفوذ كبير على السياسة والسياسيين هناك لانها تعتبر كازخستان ساحة نفوذها الستراتيجية. لذلك سارعت روسيا لارسال قواتها الى هناك لتقمع الشعب المحتج كما فعلت في سوريا واوكرانيا من قبل.
انه درسٌ آخر لما يمكن ان ينتجه تحالف الفساد مع السياسة والنفوذ الخارجي،فهل من مُعتَبِر؟!