ترجمة وتعليق المجموعة المستقلة للأبحاث
توطئة
مرت قبل اسابيع الذكرى العشرين لغزو العراق،ذلك الحدث الذي لم يزلزل كيان العراق والعراقيين فحسب بل كل المنطقة وشعوبها. بل كان بداية حقيقية لما نشهده اليوم من تغيير في معادلات القوى الجيوستراتيجية في كل العالم. وكالعادة لم تمر الذكرى دون جدل كبير داخلي وخارجي،ليس فقط حول مصطلحات الغزو، والتحرير،أو الأحتلال بل حول أسباب الأحتلال ودور مختلف الأطراف فيه. يبدو بعد عشرين سنة من هذا الحدث أن الأفتقار للكتابات والأبحاث الرصينة بخصوص أحتلال العراق قد ساهم في زيادة حدة الخلاف والأستقطاب بين المختصين وغير المختصين. وفي ظل شحة المصادر التاريخية التوثيقية الرصينة،فأن من النادر نشر وقراءة مثل هذا المقال الذي قررت أدارة المجموعة المستقلة للأبحاث ترجمته للعربية ووضعه بين يدي القارىء العربي .أنه مقال نشر في صحيفة الفورن أفيرز المرموقة في السنوية العشرين للأحتلال،وهو لا يستند الى أنطباعات وآراء الكاتب بقدر أستناده الى وثائق ومقابلات مع صناع قرار الحرب في واشنطن ومنفذيه على الأرض. تحديداً،فأن هذا المقال يمثل أضافة مهمة للذاكرة العراقية بخصوص أهم وأول قرارين أتُخذا بعد الغزو وهما قراري حل الجيش العراقي وأجتثاث البعث. تقدم المقالة معلومات مهمة ولأول مرة بخصوص كيفية صنع هذين القرارين وأين صُنعا ومن ساهم في صياغتهما. تنبع أهمية ذلك من الجدل الذي لازال دائراً في الأوساط العراقية والعالمية بخصوص تأثيرهما على كل مجريات ما حصل في العراق خلال العقدين الماضيين. ونظراً لطول المقال فسيتم نشره على حلقات متسلسلة.
وننبه هنا أن كل الآراء المذكورة هي آراء الكاتب،مع بعض التوضيحات من المترجم وضعت بين قوسين،وأن المجموعة المستقلة للأبحاث لا تتبنى أي رأي ولا تستطيع تأكيد أو نفي أي من الوثائق والآراء التي وردت في المقال.
أوامر الفوضى
من الذي حَلَّ الجيش العراقي واجتث بيروقراطية البعث؟
بقلم غاريت إم غراف
5 ايار 2023
(1)
في رحلته إلى بغداد في شهر أيار من عام 2003، كان بول بريمر قد قام لتّوه بإعادة كتابة تاريخ العراق. وكان السيد بريمر، السفير السابق والموظف البيروقراطي المتمرّس والذي شغل سابقاً منصب رئيس الموظفين لوزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر،تولى قبل أسابيع قليلة منصبه الجديد كمبعوث رئاسي إلى الدولة المحرّرة حديثاً. وبعد موجة من البيانات الصحفية في واشنطن واجتماع المكتب البيضاوي الأخير مع الرئيس جورج دبليو بوش، سافر بريمر الشهير باسم “جيري”، كما اعتاد الجميع تسميته، جوا إلى قطر ثم إلى الكويت ثم العراق. وبحكم منصبه الدبلوماسي، تمكن بريمر من زيارة معظم عواصم الشرق الأوسط، إلا أن هذه كانت هي المرة الأولى التي يرى فيها بريمر مدينة بغداد. وكان بريمر قد أمضى الأسبوعين الماضيين في محاولة منه للتعرف على الدولة التي سوف يحكمها الآن.
ومن على متن طائرة C-130 التابعة لسلاح الجو الأمريكي، قام بريمر بتحرير مُسودتين كان ينوي إصدارهما عند وصوله. حيث نصّت إحدى المسودتين على “اجتثاث البعث”، الذي يمنع كبار المسؤولين في حزب صدام حسين من المساهمة في العراق الجديد. وتناولت المسودة الثانية أمر حل الجيش العراقي وأجهزة أمنية أخرى. وعند النظر من نافذة الطائرة، رأى بريمر ونائبه كلاي مكمانوي نارا تلو الأخرى تمتد نحو الأفق. “نهب القوة الصناعية”، صرخ مكمانوي بصوت يعلو أزيز المراوح، لقد حان الوقت لتصفية الكثير من الحسابات القديمة.
ولم يكن بإمكان أحد على متن تلك الطائرة إدراك أن هذه الملاحظة العابرة ستمضي بعيداً فيما بعد في تفسير النتائج النهائية للوثائق والقرارات التي حملها بريمر معه في حقيبته.
فعلى مدار العشرين عاماً الماضية، وبينما كانت الولايات المتحدة تحسب الخسائر البشرية والإرث المكلف لحربها الكارثية التي شنتها في الشرق الأوسط، تم اعتبار قراري بريمر المشينين لسلطة التحالف المؤقتة -الأمر 1، اجتثاث حزب البعث من الدولة العراقية، والأمر 2، حلّ الجيش العراقي- من أسوأ أخطاء الحرب، والتي كانت بمثابة شرارات تكفي لتأجيج التمرد المقبل وإشعال النار في العراق لسنوات، وهي فترة من الفوضى لقي فيها آلاف الجنود الأمريكيين مصرعهم وأودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين العراقيين.
ومع ذلك، أحاط بالأمرين اللذين أديّا الى تلك الفوضى العارمة وهدر الدماء الكثير من الغموض. وفي ذلك الوقت، لم يستوعب حتى كبار قادة الولايات المتحدة مثل مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينيت ووزير الخارجية كولن باول من أين أتى هذين القرارين أو من أجازهما. وبعد عقدين من الزمن، وبعد جمع هذا وذاك من كافة مذكرات ومقابلات المشاركين الرئيسيين في صنع القرار في الملف العراقي آنذاك، والوثائق المؤرشفة، والمقابلات الجديدة مع عشرات المسؤولين الأمريكيين السابقين، باتت القصة الأصلية أكمل وأتم ومتاحة أخيراً.
وتبيّن فيما بعد أن لكلا الأمرين خلفية مغايرة جداً ومسارات مُختلفة للغاية خلال عملية صنع السياسات. وعلى الرغم من أن كلا الأمرين قد تمت صياغتهما من طرف مسؤولين متوسطي المستوى مغمورين في البنتاغون، الا أن قرار اجتثاث البعث أنبثق من محيط العالم الغامض الذي كان يكتنف مكتب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، بينما أنبثق قرار حل الجهاز العسكري والأمني للبلاد أثناء التواجد على الأرض العراقية. ولعله من المفاجئ انه لم يؤخذ أي من الأمرين اللذين قلبا موازين خطط البيت الأبيض قبيل الحرب على محمل الجد والأهمية من وجهة نظر أولئك اللذين طرحوا النهج الجديد. ومثل غيرها من العديد من المغامرات الأمريكية البائسة في العراق، فإن أمرَي سلطة الائتلاف المرقمان 1 و2 ما هما الا نتاج قصة التخطيط المتأخر والافتراضات الخاطئة والتنفيذ الفاشل لها. كل ذلك كان يحصل ضمن وضع متدهور ومتسارع على أرض الواقع.
أسوأ الخطط الموضوعة
ما يزال السبب الذي دفع الولايات المتحدة لخوض الحرب في العراق مجهولاً وسؤال لا يمكن الإجابة عليه بتاتاً. وقد يكون مزيجاً معقداً من العوامل التي دفعت بالمسؤولين الأمريكيين لتبني قرار الغزو منها تباين وجهات النظر الذاتية للعالم وممن يحملون نظريات استراتيجية راسخة،وضغط لوبي المعارضة من قبل المنفيين العراقيين، والمظالم والشكاوى المتراكمة ضد صدام، والغطرسة الأميركية ما بعد الحرب الباردة، والمعلومات الاستخباراتية المشكوك في صحتها، ومناخ الخوف والحس القومي المتعاظم الناجم عن هجمات 11/9.
ومع ذلك، فقد تم تبرير الحرب علانية على أسس واضحة مفادها أن صدام كان يواصل تطوير أسلحة الدمار الشامل. وبعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، كان يعتبر احتمال امتلاك ديكتاتور له تاريخ من القتال بشنّ حرب مع جيرانه من الدول المجاورة وإيواء الجماعات الإرهابية لسلاحٍ كيميائيٍ أو بيولوجيٍ أو نوويٍ غير مقبول البتة. وفي الواقع، تم نشر مقترحات لغزو العراق في إدارة بوش في وقت مبكر من الأيام التي تلت 11 سبتمبر/أيلول، بينما كانت النيران ما تزال مستعرة في البنتاغون ومركز التجارة العالمي. وفي ليلة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، بالفعل، طلب بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع والذي شارك في تأليف مقال نُشر في مجلة وييكلي ستاندرد الاخبارية عام 1997 عن صدام بعنوان “أطيحوا به”، طلب فيه معلومات استخبارية حول علاقات العراق بالإرهابيين. وبحلول صيف عام 2002، بدا الغزو أمراً لا مفر منه.
وتم تحديد خطة تقريبية ومشاركتها مع العامة: ستكون الحرب سريعة دون إراقة دماء (على الأقل بالنسبة للولايات المتحدة)، وستدفع عائدات النفط تكاليف إعادة الإعمار للعراق المحرر حديثاً. ولم يكن لدى إدارة بوش تلك الرغبة لبناء أمة على غرار خطة مارشال. بل كانت تأمل، بدلاً من ذلك، محاكاة النهج الذي بدا مجدياً في أفغانستان: غزو سريع وساحق يتبعه انتقال سريع إلى قادة محليين ودودين وأصدقاء. وفي أفغانستان، تم اختيار حامد كرزاي، وهو ناقد لطالبان يعيش في المنفى، كزعيم مؤقت للبلاد في غضون أسابيع من الغزو الأمريكي. وفي العراق، رأى الكثيرون في إدارة بوش أن أحمد الجلبي هو أفضل مرشّح لذلك، كونه خصم صدام المنفي الذي كان مقرباً من العديد من المحافظين الجدد.
وبحلول أوائل عام 2003، عندما تجمعت قوات الغزو في الشرق الأوسط، كان مسؤولو البنتاغون يعملون من خلال خطط لإتمام عملية الاحتلال السريع، ما أطلقوا عليه عمليات “المرحلة الرابعة” – حيث ركزت المراحل الأولى إلى الثالثة على التعزيزات والعمليات القتالية الأولية. وتم تصميم مشروع تخطيط ما بعد الحرب هذا، والذي أطلق عليه اسم الكسوف الثاني Eclipse II، على غرار مشروع الكسوف Project Eclipse، الذي مثل خطة الحلفاء لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لأعادة بناءها. واستغرق تطوير النموذج الأصلي لسنوات عديدة، بدءاً من 1943، حينما كانت بوادر النصر بالكاد تلوح في الأفق. لكن العمل على نسخة 2003 كان عكس ذلك أذ كان عاجلاً وشحيح الموارد،وخلال اللحظات اللحظة لتصولر عراق ما بعد صدام والذي لم يبدأ إلا بعد عبور الدبابات والقوات الفعلية عباب المحيط الأطلسي.
وبينما كان مخططو الجيش يتصارعون مع مسألة كيفية التعامل مع الآلاف من المسؤولين السُّنة الذين شكلوا حزب البعث، وجدوا تشابهاً واضحاً في ألمانيا ما بعد الحرب. حيث أدرك المسؤولون سريعاً أن أي جهد “لمحو النازية” من الدولة المهزومة خلال الحرب العالمية الثانية ينبغي أن يتم تنفيذه على نحو ضيق. إذ كان ينتمي رسمياً حوالي عشرة بالمائة من جميع الألمان إلى الحزب النازي وملايين آخرين كانوا موالين لجمعيات عمالية ومهنية أخرى متحالفة مع النازية. وذلك لأن التخلص منهم جميعاً كان أمراً لا يمكن قبوله إدارياً، لذلك قرر المسؤولون الأمريكيون آنذاك حظر ومعاقبة أسوأ الجهات الفاعلة في النظام النازي مع ترك البيروقراطيين الأقل حماساً ومستوى من اللذين انضموا إلى الحزب النازي لمقاصد وظيفية فحسب. ووفقاً لما تم سالفاً، هكذا توقعت المسودات المبكرة للكسوف الثاني نهجاً مماثلاً لاجتثاث حزب البعث في العراق.
بعد النصر
ووقعت مهمة الإشراف على المرحلة الرابعة على عاتق جاي غارنر، وهو جنرال متقاعد بالجيش الأمريكي ترأس مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية (ORHA)، وهي حكومة تصريف أعمال للعراق تأسست عشية الغزو. كان لدى غارنر تاريخ مشهور في البلاد. ففي نهاية حرب الخليج(1991)، قاد فرقة عمل هناك تهدف إلى مساعدة السكان الأكراد. لكن مهمته الجديدة كانت أصعب بكثير. وحالما جرى تعيينه في يناير/كانون الثاني من عام 2003، كان لديه أسابيع فقط لإعداد خطة عمل لحكم 25 مليون عراقي وبلد بحجم ولاية كاليفورنيا.
وبدأت أورها ORHA مشوارها من الصفر تقريباً، على الرغم من أن وزارة الخارجية التي تقع مقابل وزارة الدفاع الأمريكية على الضفة الأخرى لنهر بوتوماك، قد قضت معظم عام 2002 في وضع خطتها المستفيضة لما بعد الحرب- وتطوير تقرير مكون من 13 مجلد و1200 صفحة بتكلفة 5 ملايين دولار وبمساعدة أكثر من 200 منفي عراقي، بمن فيهم محامين ومهندسين وأطباء، مقسمين على 17 مجموعة عمل. لكن جهود وزارة الخارجية هذه والتي أسفرت عما سمي بمشروع مستقبل العراق والذي أشرف عليه توماس واريك Thomas Warrick، أنتُقد بشدة من قبل الجلبي -ونتيجة لذلك على ما يبدو- فقد تم أهماله من طرف البنتاغون. وقال غارنر في وقت لاحق إن رامسفيلد طلب منه تجاهل مشروع مستقبل العراق. كما رُفض طلبه لإضافة واريك إلى فريقه في العراق!
وبدلاً من ذلك، تم تقديم خطط البنتاغون الجماعية الجديدة والسريعة بعد الحرب، كما هي، إلى مجلس الأمن القومي في 10 مارس/آذار من عام 2003، قبل أسبوع واحد فقط من الغزو. وأشرف على العرض التقديمي الذي سُمي الأيجاز العظيم 4 Mega Brief 4 كبير مديري مجلس الأمن القومي لسياسة الدفاع والحد من التسلح فرانك ميلر Frank Miller. وشملت إحاطة ميلر اجتثاث البعث وكذلك مستقبل وزارة الخارجية العراقية وأجهزة المخابرات، والشرطة، والقضاء، والجيش. بل تضمن الأيجاز التوصية بأنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة على غرار اللجنة التي أنشأتها جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري.
وعلى غرار اجتثاث النازية، قرر المسؤولون في ذلك الأجتماع أن اجتثاث البعث سيركز على النخبة الحزبية بلا مساس بالمستويات الأدنى. وكانت وجهة نظر غارنر هي أن الولايات المتحدة يمكن أن تنجح على الأرجح من خلال حظر أعلى اثنين من القيادة العليا لكل وزارة أو مؤسسة. ويتذكر لاري دي ريتا Larry Di Rita ، أحد كبار مساعدي رامسفيلد بقوله:” كنا نتحدث عن رقم محدود للغاية، كنسبة تصل الى أعلى من واحد ونصف في المئة”. وتذكر ميلر الأمر بالطريقة ذاتها: “طرحنا مسألة تنفيذ اجتثاث البعث بصورة هادئة.”
أما بالنسبة لدوغلاس فيث Douglas Feith ، وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية في البنتاغون، فقد بدت قرارات المخططين بشأن اجتثاث البعث واضحة وبسيطة وسط استعدادات الحرب.فبالنسبة له، بدا الإجراء المقترح لحظر المسؤولين البعثيين المستهدفين على نحو ضيق بسيطاً ومعقولاً. ويستذكر فيث في مقابلة له: ” لم يقل أحد أنه يجب قتلهم أو سجنهم أو تجريدهم من ممتلكاتهم”. “فلقد كانت العقوبة أنه لم يعد بإمكانك العمل في الحكومة الجديدة. لم يكن الأمر بغاية القسوة، بالنظر إلى ما اقترفه حزب البعث من فظائع الأمور. “وبحسب فيث، لقد أثار القرار جدلاً بسيطاً بين الوكالات وسط العديد من الأسئلة السياسية الأصعب. وقال “الأشياء التي أتذكرها هي الأشياء التي كانت مثيرة للجدل”. “ولا يحضرني أن مسألة اجتثاث البعث بتلك الصيغة كانت مدرجة ضمن تلك الفئة المثيرة للجدل. إذ تم التعامل معها ضمن فريق مشترك بين الوكالات، وكان هناك اتفاق في الرأي حولها”.
لم يعتقد غارنر أن اجتثاث البعث سيكون قضية رئيسية للولايات المتحدة أيضاً. واستندت تنبؤاته على تجربته خلال حرب الخليج، عندما انتفض الأكراد والشيعة وقتلوا أعدادا كبيرة من البعثيين. وكما أشار في مقابلة له، افترض أنه مرة أخرى، سيقضون بأنفسهم على أسوأ المسؤولين. ويستحضر قائلاً: “سيموت الكثير من الأشرار”. وتحدث غارنر مع رامسفيلد حول خطة فضفاضة للحفاظ على التكنوقراطيين، بعد أخضاعهم لتدقيق بسيط، ووافق رامسفيلد على كلامه.
لكن الأصعب هو القضية التي طرحها فيث نفسه في “ميجا بريف فور”: ما يجب فعله حيال الجيش العراقي. يتذكر المشاركون أنه كان أحد أصعب الأسئلة التي واجهوها بعد الحرب. كان الجيش العراقي قوة عسكرية هائلة يقدر بحوالي نصف مليون جندي مطوع ومجند،بالإضافة إلى عدد ضخم من الضباط يضم آلاف الجنرالات. كان المجندون يتألفون في الغالب من الشيعة، اللذين يشرف عليهم ضابط سني في الغالب موالٍ لصدام. كان التدريب ركيكاً، منضبط ووحشي. وكان السؤال مفتوحاً عمّا إذا كان الجيش قابلاً للإنقاذ أو ما إذا كان من الأفضل حلّه تماماً واستبداله بجيش جديد يُعاد بناؤه من الصفر وفقاً للمعايير الغربية وغير منقسم على أساس طائفي. وقال فيث:” كانت هناك حجج قوية على جانبي النقاش-الإصلاح والحل”. “ولم يكن واضحاً لي ما هي الإجابة الصحيحة”.
وبعد دراسة القضية، قرر واضعو الخطط الأمريكيون الاحتفاظ بالجيش، على افتراض أنهم سيكونون قادرين على استخدام هيكله التنظيمي وقواعده وموظفيه ومعداته كأساس لجهود إعادة الإعمار. إلى جانب ذلك، في حرب الخليج، استسلم الجيش العراقي بشكل جماعي. وتم وضع عشرات الآلاف من أسرى الحرب في عهدة القوات الأمريكية، وتوقع المخططون الأمريكيون حدوث شيء مشابه مرة أخرى، وهذه المرة يمكن وضع الجنود الذين تحولوا إلى أسرى للعمل على إعادة الإعمار.
وكجزء من اجتماعات مارس/آذار تلك، طلب رامسفيلد من فيث أن يطلع بوش ومجلس الأمن القومي على توصيات غارنر بأن الجيش يستحق الإبقاء عليه. وكما يستحضر فيث، ” كان لدينا عمل هائل للقيام به في إعادة الإعمار، والجيش العراقي لديه مرافق، ولديه وسائل نقل، ولديه أفراد يتمتعون بالمهارات.” وكان من بين صفوفه خبراء في تكنولوجيا الاتصالات والطرق والبناء وما إلى ذلك. “كانت هذه كلها أشياء شدد غارنر على أننا سنحتاج إلى الاعتماد عليها لإعادة الإعمار.”
حتى أن البنتاغون اختار مقاولاً دفاعياً في شمال فيرجينيا، تابع لشركة الموارد المهنية العسكرية. التي أعانت في إعادة بناء الجيش الكرواتي في عام 1990، للإشراف على جهود إصلاح الجيش العراقي. ويستذكر غارنر:” غادرت الأجتماع بانطباع مفاده موافقة كل من رامسفيلد والرئيس للأبقاء على الجيش”. “لم تكن فكرتنا إعادة الجنرالات-ربما واحد أو اثنين فقط- ولكن الأبقاء على الضباط برتبة عقيد بعد تدقيق معلوماتهم جيداً، كما أردنا إعادة كل من كانت رتبته من مقدّم فأقل الى صفوف الجيش.”
وخلال لقائه مع الصحفيين في البنتاغون في 11 مارس/ آذار، حدد غارنر فحوى المحادثات في ذلك الأسبوع في البيت الأبيض، وقال للصحافة إن الولايات المتحدة تأمل في إعادة السلطة بسرعة إلى العراقيين. وقال” نعتزم البدء فوراً في تغيير بعض الأمور، وكل يوم، سنقوم بتغيير المزيد”. ومضى موضحاً أن الجيش العراقي سيبقى قائماً ليقوم جزء منه بالمساعدة في إعادة الإعمار، كما أشار، ولتجنب وضع الكثير من الرجال العاطلين عن العمل في الشارع. وقال إن الهدف هو إعادة العراق إلى العراقيين في غضون ” أشهر.”
وعشية الحرب، كان هناك إجماع واسع بين كبار المسؤولين في البيت الأبيض والبنتاغون: سيكون اجتثاث البعث مصمماً على نحو ضيق، وسيظل الجيش العراقي قائماً بذاته. ولم يختلف أحد من الشخصيات البارزة في واشنطن حول ذلك.
حقائق عل أرض الواقع
بدأ الغزو في 20 مارس/آذار، وفي غضون ثلاثة أسابيع فقط، اندفع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى بغداد وانهارت الحكومة العراقية. كان كل شيء تقريبا يسير وفقاً للخطة-ربما أفضل مما توقعه المخططون. لكن صور من العاصمة تحولت بسرعة مثيرة للقلق. كان النهب واسع الانتشار، وبدا الجيش الأمريكي غير مرئي تقريباً مع حرق المباني الحكومية العراقية.ولم يُعرالمسؤولون الأمريكيون تلك الاضطرابات المدنية باعتبارها مرحلة مؤقتة – بل حتى علامة على القوة، أذ أصبح بإمكان العراقيين اتخاذ خيارات شخصية جديدة. وقال رامسفيلد عبارته الشهيرة للصحفيين ” فوضى الحرية، والناس الأحرار أحرار في ارتكاب الأخطاء وارتكاب الجرائم والقيام بأمور سيئة”. “هكذا أمور تحدث”!
وبمرور الأيام، أصبحت المشاهد من بغداد أكثر فوضوية، ولم تتح الفرصة لغارنر لوضع خططه موضع التنفيذ. لقد اشتبك مع الجلبي الذي كان مدعوماً من فيث ورامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني والذي سعى لانتزاع السيطرة على البلاد لنفسه. (لقد التقينا في الناصرية في الخامس عشر من نيسان/ أبريل، وتنافرنا مع بعضنا البعض على الفور، كما يتذكر غارنر). كان غارنر أيضاً يواجه مشكلة أن الولايات المتحدة ليس لديها خطة مفصلة لكيفية التعامل مع العراق بعد الغزو، ولم يكن لديها في أي مكان قريب ما يكفي من القوات للحفاظ على النظام. وتبين أن افتراضات خطة “الكسوف الثاني” متفائلة إلى حد كبير، ولم تكن هناك خطط طوارئ للتعامل مع بلد ينعدم فيه القانون فجأة.
اعتقد غارنر أن الوقت ينفد. وبشكل محير للغاية، كانت الولايات المتحدة تسحب قواتها بالفعل من البلاد، وتعود أدراجها إلى الكويت، حتى مع تداعي الأمن. وفي يومه الأول في بغداد، التقى بالقائد الأمريكي المحلي، الذي أخبره أن القوات الأمريكية كانت مرهقة للغاية لحماية ما يقرب من 250 موقعاً مختلفاً في جميع أنحاء البلاد. ومن وجهة نظر غارنر استذكر قوله، “في الوقت الحالي، نحن محررون، وسوف تغلق نافذة التحرير فيما بعد، ومهمتنا هي إبطاء هذه العملية.” وتابع: “عندما تغلق هذه النافذة، نكون عندئذ محتلين، ولا يمكننا حينها فعل ما ينبغي فعله إذا ما كنا محتلين”.
وكانت مجموعة غارنر، مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية ORHA ، تعاني من نقص حاد في الموظفين، ويرجع ذلك جزئياً إلى معارضة رامسفيلد تعيين العديد من موظفي وزارة الخارجية، بمن فيهم واريك، للعمل فيها. وحاول غارنر المضي قدماً بأفضل ما في وسعه، لكن قام المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى في البنتاغون واللذين كانوا الآن يعيدون التفكير في بعض القرارات الأساسية التي تم اتخاذها بشأن عراق ما بعد الحرب، بإبعاده عمداً خارج دائرة صنع القرار. ووفقاً لمؤسسة راند بشأن التاريخ الرسمي للاحتلال في وقت لاحق، “لم يقم أي شخص في واشنطن بإبقاء غارنر على اطلاع بالتغييرات الرئيسية في نهج الاحتلال الذي يجري هناك، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه لم يتم تكليف أي شخص في واشنطن سوى وزير الدفاع رامسفيلد لاطلاع غارنر على مجريات الأمور. “
وتم إلقاء اللوم على غارنر لفشله في إحلال النظام سريعاً في العراق، وفشل في العاصمة في 24 أبريل/نيسان، إذ في أحد الأيام الأولى التي كان فيها غارنر بالفعل في بغداد اتصل رامسفيلد به وأخبره أنه سيتم استبداله ببريمر باعتباره المبعوث الرئاسي إلى العراق. كان غارنر يعرف دائماً أنه سيتم استبداله في النهاية – كما قال مازحاً لفيث، أراد بوش “شخصاً مرموقاً” لإدارة العراق – لكنه لم يتخيل أبداً أن تعيينه سيستمر لأيام فقط. كان غارنر ضحية ليس فقط للسياسات البيروقراطية في العاصمة، ولكن أيضاً للواقع العراقي.ولم تكن تلك اللمسة البسيطة التي توقعها مكتب “إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية” عند النخطيط سوى اضغاث أحلام – اذ بدا أسم المكتب متفائلاً زيادة عن الواقع، بالنظر إلى حاجة العراق الماسة لوجود سلطة تشريعية فيه.
الحاكم الجديد
مثل بريمر بداية جديدة للولايات المتحدة في العراق، وقاد منظمة أقوى وأعلى مكانة، وهو ما يسمى الآن سلطة التحالف المؤقتة، خليفة مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية في إشارة إلى عملية صنع القرار في ذلك الوقت، وعندما أنشأت إدارة بوش اتفاقية السلام الشامل، لم تكلف نفسها عناء إصدار أمر فعلي بإغلاق مكتب إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية؛ فالمكتب لم يعد له أي وجود فعلي.
فاجأ تعيين بريمر الجميع تقريباً في واشنطن. وكانت دوائر صنع القرار الحقيقية في ذلك الوقت صغيرة للغاية – تقتصر إلى حد كبير على مكاتب تشيني ورامسفيلد – حتى أن كبار المسؤولين في الإدارة كانوا يعرفون الأخبار في نفس الوقت مع العامة(من الأعلام). واثناء توجهه إلى مقر وكالة المخابرات المركزية بعد الإعلان، اتصل تينيت بباول، سائلاً إيّاه، “ماذا تعرف عن هذا الرجل، بول بريمر؟!”. لكن التعيين – والتفويض الهائل المصاحب له – كان متسقاً مع النهج المتطور لرامسفيلد وتشيني. ويذكر روبرت جرينير Robert Grenier، الذي مثل وكالة المخابرات المركزية في العملية المشتركة بين المؤسسات الأميركية في العراق، “أتذكر على وجه التحديد قول نائب الرئيس “إنه اختيار ما بين الشرعية والسيطرة، وعلينا اختيار السيطرة “.
ومن اجتماعاته السابقة ما قبل مغادرة واشنطن، استنتج بريمر أن العراق بحاجة إلى نهج أكثر صرامة وإصلاحات شاملة أكثر مما سعى إليه غارنر. وجعلته الاحاطات الإعلامية يشعر بأنه يتجه لقيادة بلد يسرع نحو الهاوية. كان العراقيون يواجهون نقصاً في الكهرباء والمياه، وجاب اللصوص في الشوارع. ولم تستسلم الأجهزة الأمنية بشكل جماعي كما توقعوا ذلك،بل ذابت ببساطة. في حينها كان العراق بحاجة ماسة إلى قبضة محكمة تأخذ بزمام الأمور.
وعلى حد قول بريمر، فقد أثبت كل افتراض قدمته الولايات المتحدة حول المرحلة الرابعة (للغزو) خطأه بجدارة. وكان الأمل كبيراً في نجاة الدولة العراقية من الغزو وأن تتمكن الولايات المتحدة من التدخل سلمياً لتوفير الغذاء والمساعدات، وتأمين البنية التحتية النفطية، ومن ثم تسليم المفاتيح إلى العراقيين.
ويستذكر بريمر في مقابلة له: “كان من المهم أن نتذكر اسم جاي غارنر ومكتبه– مكتب إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية،أذ كانت الفكرة الأساسية وراء ذلك هو أننا كنا سنواجه نفس الوضع الذي واجهناه بعد حرب الخليج الأولى: هجمات جماعية على حقول النفط، وحركة إنسانية جماعية ولاجئين.”
شارك والتر سلوكومب Walter Slocombe، أحد كبار مساعدي بريمر، في جلسات الإحاطة العاجلة في العاصمة واشنطن بينما كان هو ورئيسه يستعدان للتوجه إلى بغداد. وأشار إلى دهشته مما علمه بأن العراق ليس لديه حكومة أو جيش فاعلين، باقتصاد وبنية تحتية عاجزتين بسبب العقوبات والفساد وسوء الإدارة. حيث قام الجنود الفارين والعراقيين الانتهازيين بتدمير أو نهب كل مكاتب حزب البعث وكل القواعد عسكرية. واختفت جميع المعدات تقريباً. ويستذكر سلوكومب: “لقد أخرجوا الأسلاك من الجدران”، “حتى أنهم سرقوا المراحيض”!
وبدا من المنطقي حينها أن أوصى بريمر وسلوكومب كلاهما بإلغاء الخطط السابقة للاحتفاظ بالجيش العراقي لصالح تدريب جيش جديد. وبعد أن قدم الاثنان خطتهما الجديدة إلى رامسفيلد، الذي وافق عليها، وبدأ سلوكومب وآخرون في البنتاغون بصياغة وإصدار الأمر المصيري لحل الجيش العراقي. وقال سلوكومب: “لقد توصلنا الى القرار” سنبدأ من الصفر”. ويواصل” لو بقي الجيش قائماً لكانت القصة كلها مختلفة. لا أعرف كيف، لكان الوضع مختلفاً”.